اسباب الغفلة ..
صفحة 1 من اصل 1
اسباب الغفلة ..
اسباب الغفلة
اعداد: الشيخ محمد رزق ساطور
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد
فقد سبق أن قلنا إن للغفلة أسبابًا، منها أولاً الجهل بالله عز وجل وأسمائه وصفاته ثانيًا الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها ثالثًا صحبة السوء
رابعًا الانصراف عن ذكر الله
خامسًا الإعراض عن النصيحة
سادسًا التسويف والتمني
سابعًا الانغماس في الشهوات وفي الشبهات
ونكمل بقية أسباب الغفلة؛ فنقول وبالله التوفيق
ثامنًا نسيان الموت والآخرة والمصير
مع أن الناس يودِّعون في كل يوم الأهل والأحباب والخلان والأصحاب إلا أنهم ينسون، أو يتناسون الموت والقبر، والبعث والنشور، والآخرة والمصير الذي ينتظرهم، ومن ثَم ينشغلون باللهو واللعب، يقول الله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحجر ، ويقول جل شأنه فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ الزخرف
وكيف ينسى العبد الموت وهو أقرب إليه من شراك نعله؟، كيف ينسى الموت وما هو إلا نَفَس يخرج ثم لا يعود؟، كيف ينسى الموت والأجل محتوم وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ الأعراف ، وقال تبارك وتعالى قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ يونس
إن نسيان الموت يؤدي إلى الغفلة التي تؤدي إلى التعلق والانهماك في لذات الدنيا وشواغلها، وتسويف التوبة، والتكاسل عن الطاعات، ولذا قيل مَن أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة ومن نسي ذكر الموت ابتُلي بثلاث تسويف التوبة، وترك الرضا، والتكاسل عن العبادة
ولأن نسيان الموت يؤدي إلى نسيان الاستعداد لما بعد الموت، فيُبتلى بنسيان الموت وسكراته، والقبر وأهواله، وعذابه ونعيمه، ووضع الموازين، ونشر الدواوين، والمرور على الصراط، ونسيان النار وما أعد الله فيها لأصحاب القلوب القاسية، وهذا الذي يبعده عن أن ينتفع بالموت، والله تعالى يقول وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ق ، ويقول سبحانه اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ الحديد
تاسعًا البدع والأهواء
وهذا حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدًى وعلم؛ فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب يُرى في أعين الناظرين ماء، ولا حقيقة له
إن سموم البدع والأهواء والضلالات الواقعة في القلب مهلكة هلاكًا يحول بين العبد وربه، ومن ثَم يتحول إلى الغفلة المطبقة التي لا يفيق منها إلا على الدمار المحقق إلا أن يشاء الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ، في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ» أخرجه الطبراني في معجمه الكبير رقم ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير معلل بن نفيل وهو ثقة
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ «إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلاَّتِ الْفِتَنِ» رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم
فهم الصادّون عن سنة رسول الله ، الداعون إلى ما يخالفها، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، فيجعلون السنة بدعة، والبدعة سنة، والمنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، وهم الذين قال الله عنهم قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا الكهف
وفي مسند ابن الجعد وغيره قال سفيان الثوري «البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها»
وفي اعتقاد أهل السنة للالكائي دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء، فقالا يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال لا قالا فنقرأ عليك آية من كتاب الله قال لا قال، تقومان عني وإلا قمت، فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم ما كان عليك أن يقرآ آية؟ قال إني كرهت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي»
وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ، أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ» أخرجه الدرامي
ولا تزال البدع والأهواء بأصحابها حتى توقعهم في المهالك، وتوردهم المعاطب، وتلقي بهم في أودية الشبهات والشهوات، فتراهم بدَّلوا الحق إلى الباطل، والتوحيد إلى الشرك، فنصبوا القباب والأضرحة، وراحوا يتقربون إليها بأصناف من العبادات يتمسحون بها، ويتعبدون عندها، ويطلبون منها ما لا يُطلب إلا من الله تعالى، وأقاموا الموالد التي يتفشى فيها الشرك بكل أنواعه، من اعتقاد النفع والضر في المقبور، وسؤاله والتعلق به، إلى الاستغاثة والرجاء، والاستعانة وطلب الشفاء، والنذر والذبح والطواف، إلى غير ذلك من العبادات التي لا تصلح إلا لله رب العالمين
وإذا أنكر عليهم منكر اتهموه بجملة من التُّهَم أعدوها بليلٍ؛ ليصموا بها أهل التوحيد، وهذا من ضلالهم وغيّهم وافترائهم على دين الله رب العالمين، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا
وترى فريقًا منهم قد لجأ إلى السحر والدجل، والشعوذة والأحجبة، والتمائم، ونشر الوهم والباطل مقابل دراهم معدودة وأباطيل قد حبكوا إفكها، وأشاعوا زورًا أن فلانًا مكشوف عنه الحجاب، وهذا يدري المخبوء خلف الباب وتحت الأعتاب، وهذا تؤخذ منه النفحات والبركات وهذا ضلال قديم وبهتان عظيم
وترى فريقًا آخر من أهل الأهواء بدَّلوا شريعة الله المحكمة إلى قوانين باطلة، وشرائع زائغة؛ فبدَّلوا نصوص الشريعة بالأعراف والعادات والأحوال بدون قيود أو ضوابط، مما أفضى إلى تبديل الشريعة ونسخها؛ لأن أهل الأهواء والبدع لن يتورعوا عن تبديل النصوص القطعية بالعرف؛ ليتوصلوا بذلك إلى إسقاط الواجبات، واستحلال المحرمات، وترك التحاكم إليها، وإحلال القوانين الوضعية الباطلة محلها، بزعم أنها لا تصلح في زماننا، وما شابه ذلك من الردود البالية السقيمة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا
وترى فريقًا منهم بعد ما علموا الحق وعملوا به دخلت عليهم الأهواء والمصالح والأغراض؛ فحوَّلتهم عن الحق الذي تعلموه وعلَّموه إلى التفرق والتحزب والتعصب والعمى، فلا يؤاخي إلا من كان على هواه، سواء كان يعمل بالحق أو لا يعمل به، فالعمدة في محبته وولائه موافقته في مذهبه وإن كان باطلاً، ثم يرقع بعض الشبهات ويتخذها دينًا يوالي عليه ويعادي، ويصدق عليه قول القائل
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
ويوزع الأحكام على خلق الله بلا روية ولا باعث إلا من هواه، فهو في كل يوم يبتعد عن دينه، ويزداد قربًا من الضلال، حتى يصير من أئمة الضلال، وهو يحسب أنه من المهتدين، وكذلك الذين يتخذون الدين ستارًا للكسب المادي والثراء الفاحش فيأكلون من حرام، ولا يسأل الواحد نفسه عن كسبه أهو من الحلال أو الحرام، ألا ساء ما يزرون وصدق الله أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ المطففين
إنهم في غفلة لا يفيقون منها إلا أن يشاء الله إلا على تحسرهم وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سبأ
فالناس فريقان فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ الأعراف
عاشرًا نِسبةُ النّعمة إلى غيرِ المنعِمِ بها
المتفضل بالنّعمة على الحقيقة هو الله جل وعلا، قال سبحانه وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ النحل ، وهذا الصنف من الناس ينسبُ النّعمة إلى غيرِ مُورِدها والمنعِمِ بها، فتَرَاه ينسِبها إلى نفسه، قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي القصص ، فيقول هذا بسبب جِدِّي واجتهادِي وكفاءَتي وصبرِي وكِفاحِي وعلمي
أو ينسِبها إلى أسبابِها، وينسَى مسبِّبَها وربَّها، فعن زَيْدِ بن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قال صلى لنا رسول اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ على إِثْرِ سَمَاءٍ كانت من اللَّيْلَةِ، فلما انْصَرَفَ أَقْبَلَ على الناس؛ فقال هل تَدْرُونَ مَاذَا قال رَبُّكُمْ؟ قالوا الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قال «أَصْبَحَ من عِبَادِي مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، فَأَمَّا من قال مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا من قال بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» البخاري ، ومسلم وكما قال الله تعالى يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا النحل
والأسبابُ لا يُنكَر أثرُها ولا الأخذُ بها، ولكنّ الذي يُنكَر الغفلةُ عن الله سبحانه وتعالى
ومنها أيضًا قول قائلهم لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص، ولولا قوة الفرامل لمات الركاب، ونحو هذا؛ فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان ووقايته منسوبة إلى الكلب، وحفظه منسوبًا لقوة الفرامل، وهذا من الشرك بالله، بل ينبغي أن ينسب الفضل لصاحبه، وهو الله تعالى، قال سبحانه قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يونس
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رأيت رسول الله يوم الخندق يحفر معنا حتى رأيت التراب قد وارى بياض بطنه، أو قال شعره، وهو يقول «والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا» البخاري ، ومسلم
وقال الله تبارك وتعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة ، فمن تعوَّد أن ينسب الفضل لغير الله تعالى عاش في غفلة عن ربه فلم يشكر له نعمة، ولم يشعر بفضله سبحانه، بل ربما ينسب الفضل للبدوي والرفاعي والدسوقي، وغيرهم ممن أطلق عليهم المدركون بالكون، الذين يديرون الكون، ويدبرون أمره كما يزعمون، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا
حادي عشر عدم الحرص على طلب العلم
العبد في أمسّ الحاجة إلى التعلم؛ ليرفع من شأنه، ولكي يحسن التعبد لربه، يقول الله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الزمر ، ويقول سبحانه وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا طـه ، وقال جل وعلا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ المجادلة
وفي محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني قيل لأبي شروان أيحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال إن كانت الجهالة تقبح منه فالتعلم يحسن به، فقيل وإلى متى يحسن منه؟ فقال ما حسنت به الحياة
وقيل لحكيم ما حدّ التعلم؟ فقال حد الحياة، أي يجب له أن يتعلم ما دام حيًا
وقال شيخ للمأمون أقبيح بي أن أستفهم؟ فقال بل قبيح بك أن تستبهم
والعلم في الأصل أفضل من الجهل، وكل الناس يحبون الانتماء والانتساب إلى العلم، ويهربون ويربأون بأنفسهم أن يُنسَبوا إلى الجهل، وهناك تفاوت في العلوم، فأهم العلوم هو العلم الذي يفقه به العبد دينه، فيعرف به كيف يعبد ربه؛ بل يعرف به ربه، ويعرف دينه، فهذا هو أشرف وأفضل العلوم، فمن أهمل هذا الجانب من العلم تقلب في الجهل والضلال المبين، وحرم نفسه من الجلوس بين يدي أهل العلم لنيل شرف التعلم مع الفهم، ورحم الله من قال
من يأخذ العلم من شيخ مشافهة
يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكن آخذًا للعلم من صحف
فعلمـه عند أهـل العلم كالعـدم
ولذلك قيل لا تأخذ العلم من صُحُفِيّ، ولا القرآن من مصحفي، يعنى لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف، ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف والكتب دون شيخ يعلِّمه
فمن حرم نفسه من العلم، ومن الجلوس بين يدي أهل العلم، عاش في غفلة وظلمة حتى إذا أخرج يده لم يكد يراها، كما قال جل شأنه أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ النور
ثاني عشر عدم التدبر والتفكر في آيات الله الكونية
يقول الله تبارك وتعالى قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ يونس ، وقال سبحانه قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ العنكبوت ، وقال جل وعلا أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ الغاشية ، وقال جل شأنه اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ الجاثية
فالتفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، وما في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، سببٌ من أسباب تقوية الإيمان وزيادة العلم وكثرة الأجر، أما عدم التدبر في آيات الله المنظورة والمتلوة فإنها ترمي العبد في ظلمات الغفلة وغيّها، مما يطمس على العبد ويبعده عن الحق المبين، قال الله تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد
هذا ما تيسر في أسباب الغفلة التي تؤدي إليها، ثم نذكر بعد ذلك إن شاء الله تعالى علاج مرض الغفلة بعد ما شخَّصنا الداء وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
اعداد: الشيخ محمد رزق ساطور
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد
فقد سبق أن قلنا إن للغفلة أسبابًا، منها أولاً الجهل بالله عز وجل وأسمائه وصفاته ثانيًا الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها ثالثًا صحبة السوء
رابعًا الانصراف عن ذكر الله
خامسًا الإعراض عن النصيحة
سادسًا التسويف والتمني
سابعًا الانغماس في الشهوات وفي الشبهات
ونكمل بقية أسباب الغفلة؛ فنقول وبالله التوفيق
ثامنًا نسيان الموت والآخرة والمصير
مع أن الناس يودِّعون في كل يوم الأهل والأحباب والخلان والأصحاب إلا أنهم ينسون، أو يتناسون الموت والقبر، والبعث والنشور، والآخرة والمصير الذي ينتظرهم، ومن ثَم ينشغلون باللهو واللعب، يقول الله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحجر ، ويقول جل شأنه فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ الزخرف
وكيف ينسى العبد الموت وهو أقرب إليه من شراك نعله؟، كيف ينسى الموت وما هو إلا نَفَس يخرج ثم لا يعود؟، كيف ينسى الموت والأجل محتوم وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ الأعراف ، وقال تبارك وتعالى قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ يونس
إن نسيان الموت يؤدي إلى الغفلة التي تؤدي إلى التعلق والانهماك في لذات الدنيا وشواغلها، وتسويف التوبة، والتكاسل عن الطاعات، ولذا قيل مَن أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة ومن نسي ذكر الموت ابتُلي بثلاث تسويف التوبة، وترك الرضا، والتكاسل عن العبادة
ولأن نسيان الموت يؤدي إلى نسيان الاستعداد لما بعد الموت، فيُبتلى بنسيان الموت وسكراته، والقبر وأهواله، وعذابه ونعيمه، ووضع الموازين، ونشر الدواوين، والمرور على الصراط، ونسيان النار وما أعد الله فيها لأصحاب القلوب القاسية، وهذا الذي يبعده عن أن ينتفع بالموت، والله تعالى يقول وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ق ، ويقول سبحانه اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ الحديد
تاسعًا البدع والأهواء
وهذا حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدًى وعلم؛ فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب يُرى في أعين الناظرين ماء، ولا حقيقة له
إن سموم البدع والأهواء والضلالات الواقعة في القلب مهلكة هلاكًا يحول بين العبد وربه، ومن ثَم يتحول إلى الغفلة المطبقة التي لا يفيق منها إلا على الدمار المحقق إلا أن يشاء الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ، في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ» أخرجه الطبراني في معجمه الكبير رقم ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير معلل بن نفيل وهو ثقة
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ «إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلاَّتِ الْفِتَنِ» رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم
فهم الصادّون عن سنة رسول الله ، الداعون إلى ما يخالفها، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، فيجعلون السنة بدعة، والبدعة سنة، والمنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، وهم الذين قال الله عنهم قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا الكهف
وفي مسند ابن الجعد وغيره قال سفيان الثوري «البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يُتاب منها، والبدعة لا يُتاب منها»
وفي اعتقاد أهل السنة للالكائي دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء، فقالا يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال لا قالا فنقرأ عليك آية من كتاب الله قال لا قال، تقومان عني وإلا قمت، فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم ما كان عليك أن يقرآ آية؟ قال إني كرهت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي»
وقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ، أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ» أخرجه الدرامي
ولا تزال البدع والأهواء بأصحابها حتى توقعهم في المهالك، وتوردهم المعاطب، وتلقي بهم في أودية الشبهات والشهوات، فتراهم بدَّلوا الحق إلى الباطل، والتوحيد إلى الشرك، فنصبوا القباب والأضرحة، وراحوا يتقربون إليها بأصناف من العبادات يتمسحون بها، ويتعبدون عندها، ويطلبون منها ما لا يُطلب إلا من الله تعالى، وأقاموا الموالد التي يتفشى فيها الشرك بكل أنواعه، من اعتقاد النفع والضر في المقبور، وسؤاله والتعلق به، إلى الاستغاثة والرجاء، والاستعانة وطلب الشفاء، والنذر والذبح والطواف، إلى غير ذلك من العبادات التي لا تصلح إلا لله رب العالمين
وإذا أنكر عليهم منكر اتهموه بجملة من التُّهَم أعدوها بليلٍ؛ ليصموا بها أهل التوحيد، وهذا من ضلالهم وغيّهم وافترائهم على دين الله رب العالمين، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا
وترى فريقًا منهم قد لجأ إلى السحر والدجل، والشعوذة والأحجبة، والتمائم، ونشر الوهم والباطل مقابل دراهم معدودة وأباطيل قد حبكوا إفكها، وأشاعوا زورًا أن فلانًا مكشوف عنه الحجاب، وهذا يدري المخبوء خلف الباب وتحت الأعتاب، وهذا تؤخذ منه النفحات والبركات وهذا ضلال قديم وبهتان عظيم
وترى فريقًا آخر من أهل الأهواء بدَّلوا شريعة الله المحكمة إلى قوانين باطلة، وشرائع زائغة؛ فبدَّلوا نصوص الشريعة بالأعراف والعادات والأحوال بدون قيود أو ضوابط، مما أفضى إلى تبديل الشريعة ونسخها؛ لأن أهل الأهواء والبدع لن يتورعوا عن تبديل النصوص القطعية بالعرف؛ ليتوصلوا بذلك إلى إسقاط الواجبات، واستحلال المحرمات، وترك التحاكم إليها، وإحلال القوانين الوضعية الباطلة محلها، بزعم أنها لا تصلح في زماننا، وما شابه ذلك من الردود البالية السقيمة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا
وترى فريقًا منهم بعد ما علموا الحق وعملوا به دخلت عليهم الأهواء والمصالح والأغراض؛ فحوَّلتهم عن الحق الذي تعلموه وعلَّموه إلى التفرق والتحزب والتعصب والعمى، فلا يؤاخي إلا من كان على هواه، سواء كان يعمل بالحق أو لا يعمل به، فالعمدة في محبته وولائه موافقته في مذهبه وإن كان باطلاً، ثم يرقع بعض الشبهات ويتخذها دينًا يوالي عليه ويعادي، ويصدق عليه قول القائل
نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
ويوزع الأحكام على خلق الله بلا روية ولا باعث إلا من هواه، فهو في كل يوم يبتعد عن دينه، ويزداد قربًا من الضلال، حتى يصير من أئمة الضلال، وهو يحسب أنه من المهتدين، وكذلك الذين يتخذون الدين ستارًا للكسب المادي والثراء الفاحش فيأكلون من حرام، ولا يسأل الواحد نفسه عن كسبه أهو من الحلال أو الحرام، ألا ساء ما يزرون وصدق الله أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ المطففين
إنهم في غفلة لا يفيقون منها إلا أن يشاء الله إلا على تحسرهم وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سبأ
فالناس فريقان فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ الأعراف
عاشرًا نِسبةُ النّعمة إلى غيرِ المنعِمِ بها
المتفضل بالنّعمة على الحقيقة هو الله جل وعلا، قال سبحانه وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ النحل ، وهذا الصنف من الناس ينسبُ النّعمة إلى غيرِ مُورِدها والمنعِمِ بها، فتَرَاه ينسِبها إلى نفسه، قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي القصص ، فيقول هذا بسبب جِدِّي واجتهادِي وكفاءَتي وصبرِي وكِفاحِي وعلمي
أو ينسِبها إلى أسبابِها، وينسَى مسبِّبَها وربَّها، فعن زَيْدِ بن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قال صلى لنا رسول اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ على إِثْرِ سَمَاءٍ كانت من اللَّيْلَةِ، فلما انْصَرَفَ أَقْبَلَ على الناس؛ فقال هل تَدْرُونَ مَاذَا قال رَبُّكُمْ؟ قالوا الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قال «أَصْبَحَ من عِبَادِي مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، فَأَمَّا من قال مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا من قال بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» البخاري ، ومسلم وكما قال الله تعالى يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا النحل
والأسبابُ لا يُنكَر أثرُها ولا الأخذُ بها، ولكنّ الذي يُنكَر الغفلةُ عن الله سبحانه وتعالى
ومنها أيضًا قول قائلهم لولا فلان ما نجونا، ولولا الكلب لدخل علينا اللص، ولولا قوة الفرامل لمات الركاب، ونحو هذا؛ فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان ووقايته منسوبة إلى الكلب، وحفظه منسوبًا لقوة الفرامل، وهذا من الشرك بالله، بل ينبغي أن ينسب الفضل لصاحبه، وهو الله تعالى، قال سبحانه قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يونس
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رأيت رسول الله يوم الخندق يحفر معنا حتى رأيت التراب قد وارى بياض بطنه، أو قال شعره، وهو يقول «والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا» البخاري ، ومسلم
وقال الله تبارك وتعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ البقرة ، فمن تعوَّد أن ينسب الفضل لغير الله تعالى عاش في غفلة عن ربه فلم يشكر له نعمة، ولم يشعر بفضله سبحانه، بل ربما ينسب الفضل للبدوي والرفاعي والدسوقي، وغيرهم ممن أطلق عليهم المدركون بالكون، الذين يديرون الكون، ويدبرون أمره كما يزعمون، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا
حادي عشر عدم الحرص على طلب العلم
العبد في أمسّ الحاجة إلى التعلم؛ ليرفع من شأنه، ولكي يحسن التعبد لربه، يقول الله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الزمر ، ويقول سبحانه وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا طـه ، وقال جل وعلا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ المجادلة
وفي محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني قيل لأبي شروان أيحسن بالشيخ أن يتعلم؟ قال إن كانت الجهالة تقبح منه فالتعلم يحسن به، فقيل وإلى متى يحسن منه؟ فقال ما حسنت به الحياة
وقيل لحكيم ما حدّ التعلم؟ فقال حد الحياة، أي يجب له أن يتعلم ما دام حيًا
وقال شيخ للمأمون أقبيح بي أن أستفهم؟ فقال بل قبيح بك أن تستبهم
والعلم في الأصل أفضل من الجهل، وكل الناس يحبون الانتماء والانتساب إلى العلم، ويهربون ويربأون بأنفسهم أن يُنسَبوا إلى الجهل، وهناك تفاوت في العلوم، فأهم العلوم هو العلم الذي يفقه به العبد دينه، فيعرف به كيف يعبد ربه؛ بل يعرف به ربه، ويعرف دينه، فهذا هو أشرف وأفضل العلوم، فمن أهمل هذا الجانب من العلم تقلب في الجهل والضلال المبين، وحرم نفسه من الجلوس بين يدي أهل العلم لنيل شرف التعلم مع الفهم، ورحم الله من قال
من يأخذ العلم من شيخ مشافهة
يكن عن الزيغ والتصحيف في حرم
ومن يكن آخذًا للعلم من صحف
فعلمـه عند أهـل العلم كالعـدم
ولذلك قيل لا تأخذ العلم من صُحُفِيّ، ولا القرآن من مصحفي، يعنى لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف، ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف والكتب دون شيخ يعلِّمه
فمن حرم نفسه من العلم، ومن الجلوس بين يدي أهل العلم، عاش في غفلة وظلمة حتى إذا أخرج يده لم يكد يراها، كما قال جل شأنه أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ النور
ثاني عشر عدم التدبر والتفكر في آيات الله الكونية
يقول الله تبارك وتعالى قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ يونس ، وقال سبحانه قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ العنكبوت ، وقال جل وعلا أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ الغاشية ، وقال جل شأنه اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ الجاثية
فالتفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، وما في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، سببٌ من أسباب تقوية الإيمان وزيادة العلم وكثرة الأجر، أما عدم التدبر في آيات الله المنظورة والمتلوة فإنها ترمي العبد في ظلمات الغفلة وغيّها، مما يطمس على العبد ويبعده عن الحق المبين، قال الله تعالى أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد
هذا ما تيسر في أسباب الغفلة التي تؤدي إليها، ثم نذكر بعد ذلك إن شاء الله تعالى علاج مرض الغفلة بعد ما شخَّصنا الداء وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
عسولة القصيمى- عدد المساهمات : 99
تاريخ التسجيل : 25/02/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى